ورثة الضمان بين الحيرة والحرمان
تتضافر معيقات قانونية ومشاكل اقتصادية في منع الأرملة أم خالد من الخضوع لمظلة الضمان الاجتماعي، خشية خسارة راتب تقاعدي ورثته عن والدها، في وقت تعاني فيه ظروفا اقتصادية حرجة، دفعتها للعمل براتب يقل عن الحد الأدنى للأجور المحدد بـ 220 دينارا.
فالجمع بين راتبي الضمان وصندوق المعونة الوطنية غير ممكن الا بشروط محدودة، وقد كان ذلك سببا في “حرمان” الخمسينية ام خالد من معونتها، البالغ 45 دينارا ولم يتبق لها سوى راتب تقاعدي ورثته عن والدها من الضمان الاجتماعي يبلغ 91 دينارا شهريا.
أم خالد كغيرها من النساء اللواتي يعملن خفية وبشكل متقطع (مياومة) في سوق العمل غير المنظم للحفاظ على “استحقاقهن التقاعدي” وتحسين دخولهن الشهرية، بينما فضلت اخريات العمل بأجور تقل عن الحد الادنى هربا من الاشتراك في أي منظومة من منظومات التأمينات.
وترى “أرامل الضمان”، أن أعمارهن المتقدمة لن تحقق لهن أي فائدة مالية من الاشتراك بالضمان، لافتات الى “أن الزيادات المالية على الراتب الاجمالي للأسرة الوريثة ما تزال متواضعة”.
غير أن مؤسسة الضمان الاجتماعي “تشجع مشاركة المرأة الأردنية في النشاط الاقتصادي، “الى حين استحقاقها راتبا تقاعديا” وفق الناطق الرسمي باسمها موسى الصبيحي الذي بدد مخاوف ورثة الضمان بقوله “إن الأرملة التي تأخذ نصيبا من راتب زوجها المتوفى تستطيع أن تعمل وتجمع بين حصتها من زوجها وراتبها بالعمل كاملين”.
وفيما يؤكد الصبيحي أن الاشتراك بأجور شهرية ضمن الحد الادنى للاجور والاشتراك المتأخر “يفرز رواتب تقاعدية ضعيفة، بالكاد تسد احتياجات الورثة وهو ما يعمق دائرة الفقر في المجتمع الأردني”، يطالب خبراء في الحقوق العمالية بـ “إعادة النظر بمجمل منظومة الحماية الاجتماعية في الأردن لتقوم على أساس توصية منظمة العمل الدولية 202 المتعلقة بأرضيات الحماية الاجتماعية”.
فيما ينطبق حال فقراء ورثة الضمان من اسر أم خالد وأم العبد وام ياسمين على عشرات من النساء الأردنيات اللواتي يفكرن بجدية في إيجاد مصدر رزق يعينهن على صعوبة الحياة ويكفيهن سؤال الناس دون المساس براتبهن التقاعدي الموروث والعيش بكرامة.
ورثة يغرقون في بحر الفقر
وفي حديثهم لـ”الغد” يلفت عدد من هؤلاء الورثة الى ان المبلغ الاجمالي لراتب الاسرة يتناقص رويدا رويدا مع وصول أي من الابناء الذكور الى سن البلوغ الرسمي، أو انضم أي فرد من افراد الاسرة الى سوق العمل، بالاضافة الى أن”وريث الضمان لا يورث راتبه الى ابنائه في حالة وفاته”.
أغلب هذه الأسر التي غرقت في بحر الفقر والعوز والحرمان، لن ينشلها منه الا إذا تحققت منظومة حماية اجتماعية شاملة، بموازاة الحفاظ على المبلغ الاجمالي للورثة بدون اقتطاع في حال خروج اي فرد منه، حسب خبراء في الحقوق العمالية.
وما يزيد الطين بلة، إغلاق أبواب المعونات بكافة اشكالها أمام أسر عفيفة بـ “قرار رسمي” بحجة عدم جواز الجمع بين اكثر من راتب، أما المعنيون بهذه القرارات فهم إما ارامل أو ايتام أو عازبات يستلمن رواتب تقاعدية شحيحة افرزتها اجور عمل متدنية.
ويصف ورثة أوضاعهم المعيشية
بـ”الكارثية “اذ بالكاد تكفي هذه الرواتب المتواضعة لسد أثمان فواتير المياه والكهرباء ومصاريف يومية بسيطة، في وقت قيدت تعليمات صندوق المعونة، معونة “فقراء ورثة الضمان” بشروط معينة.
فمسألة الجمع ما بين الراتبين تنحصر وفقا لتعليمات رسمية بـ”أن يكون راتب الفرد الواحد من الضمان أقل من خمسين دينارا في حين تقوم المعونة بدفع الفرق من راتب الضمان الى المعونة المالية المقررة” بحسب مساعد مدير صندوق المعونة الوطنية عمر مشاقبة، الذي أكد ان “التعليمات تفيد بحجب المعونة فورا في حال ثبت استفادة المنتفع لأي دخل اضافي”.
ويبلغ عدد المستفيدين من جمع المعونة وراتب الضمان 5013 اسرة، بحسب ما أضاف المشاقبة لـ “الغد”، بينما استفاد ما يقارب 100 الف وريث من برامج مؤسسة الضمان منذ تأسيسها حتى نهاية العام الماضي، حيث يتم توزيع راتب تقاعد المتوفى على المستحقين من أفراد عائلته وهم أرملته وأبناؤه وبناته والوالدان، والمعالون من الإخوة والأخوات، والجنين حين ولادته حياً.
وتحدد تعليمات الصندوق خط الفقر المطلق بـ 68 دينارا للفرد الواحد شهريا، والفقر المدقع بـ 28 دينارا، وما بين الخطين، تقبع مئات الاسر المحرومة التي وثقت اوضاعها “الغد” لترصد الخلل في منظومة الحماية الاجتماعية في الأردن، والتي تعتبر حقا أساسيا من حقوق الإنسان للعيش بأمان وكرامة وأحد أهداف التنمية المستدامة 2030 المتعلقة بمكافحة الفقر وتوفير العمل اللائق.
وريثات يعملن بالخفاء
ودفعت قيود قانونية أغلب ورثة الضمان للعمل خفية في سوق العمل غير المنظم لتجنب اخضاع رواتبهن الجديدة للعمل، وخشية من ايقاف راتبهن الموروث، فكلا الراتبين ضعيف ولا يحقق حياة كريمة.
وتسعى هذه الشريحة من النساء وسط حياة مليئة بالقلق والخوف، لتحسين اوضاعهن الاقتصادية وتوفير لقمة العيش وتدريس الأبناء، بحسب ما أكد عدد من النسوة لـ”الغد”، في حين يشير الصبيحي الى وجود “ضعف في الوعي المجتمعي بأهمية الضمان ودوره في حماية الإنسان وتنمية المجتمع اقتصادياً واجتماعياً، وزيادة فرص التمكين والحد من الفقر والبطالة”.
لكن الأرملة (أم خالد) تؤكد أن فرحتها براتب تقاعدي ورثته من والدها مقداره 91 دينارا من الضمان الاجتماعي “لم تكتمل عندما اوقف صندوق المعونة الوطنية راتبها الشهري (45 دينارا) بحجة عدم السماح لها بازدواجية الرواتب وفقا لتعليمات الصندوق”.
وتبدأ معاناة (أم خالد) عند توزيع هذا الراتب التقاعدي على والدتها وشقيقها 22 عاما، حيث باتت مسأله الانفاق على تدريس ابنتها في الجامعة مهمة “شبه مستحيلة”، كما تقول، كون اولادها “لا يحملون رقما وطنيا، وزوجها المتوفى قبل 17 عاما لم يشترك في الضمان الاجتماعي”، متسائلة: “اين حق المرأه في العمل وأن تعيش بكرامة في مجتمعها وهي لا تملك حتى تكاليف تعليم أبنائها أو علاجهم؟!”، وهو ما دفع (أم خالد) للعمل بالخفاء (مياومة) في سوق العمل غير المنظم.
أما الارملة (أم العبد) فتشرح بحرقة معاناتها في كيفية توزيع الراتب التقاعدي الموروث والبالغ (130 دينارا) في ظل وجود فواتير علاج وأدوية شهرية تبلغ 70 دينارا، حتى أن بعض الجمعيات قطعت عنها كفالة الأيتام التي كانت تدفعها لأبنائها، مشيرة الى أنه في حال وفاتي “سيتوقف راتب والدي الذي ورثناه تلقائيا عن اولادي كونهم غير مستفيدين من ورثة جدهم”.
وفي ورقة بحثية نشرتها مديرة إدارة فرع ضمان جبل الحسين في المؤسسة مي القطاونة مؤخرا حول “المزايا الخاصة بالمرأة في قانون الضمان الاجتماعي”، اكدت “حقّ المرأه في الجمع بين أجرها من العمل أو راتبها التقاعدي وكامل حصّتها التي تؤول إليها من راتب زوجها المتوفى دون أن يكون لدخلها من العمل أو راتبها التقاعدي أي تأثير على استحقاقها لهذه الحصة”.
رواتب تتآكل وزيادات مالية متواضعة
استيقظت الستينية أم حاتم بعد صدمة وفاة زوجها، الذي فارق عائلته فجأة تاركا حسرة وألما كبيرين في قلوب زوجته وأبنائه الذين لم تكن لديهم أدنى فكرة عن أن وفاة والدهم ستضعهم على هاوية الفقر بعد تقسيم راتب الضمان الذي لا يكفي لسد احتياجات البيت ومتطلباته.
لم تكن تعلم الأرملة الستينية أم حاتم أن راتبها سيتناقص كلما مر الزمن بها وبأولادها، خصوصا بعد أن كبر أولادها، قائلة “ما تبقى من الراتب لا يكفينا حتى منتصف الشهر”، مشيرة الى أن حصة ابنتها الجامعية من الراتب التقاعدي تبلغ 35 دينارا لا يكفيها مصروفها اليومي ولا حتى أجرة الباص من السلط إلى عمان.
وتقول أم حاتم، انه منذ توفي زوجها قبل 11 عاما، لم يزد الراتب سوى 10 دنانير، وهو ما يدفعها دفعا للاقتراض لتسديد بعض تكاليف الجامعة وفواتير الكهرباء والماء.
الناشط بحقوق العمال فتح الله العمراني يتفق مع الصبيحي بضرورة “نشر ثقافة عمل المرأة وصولا بحقوقها لراتب تقاعدي وجوبي بدلا من تقاعد مبكر”.
ومن خلال تجاربه الشخصية في نقابة العامة للعاملين في الغزل والنسيج والألبسة بصفته رئيسها، اشار فتح الله الى “ان أغلب النساء في هذا القطاع يسعين فعليا نحو راتب تقاعدي مبكر والانسحاب من قوة العمل، خاصة الأرامل والمطلقات والعازبات رغم انهن في سن الانتاج”.
حسابات رقمية صماء
تعديلات عديدة طرأت على قانون الضمان الاجتماعي خلال السنوات الماضية جعلت الخمسينية ام ياسمين تعجز عن فهمها، لكنها تعي تماما أن “فرع ضمان طبربور أوقف راتبها منذ ستة شهور تقريبا”.
وتعيش الأرملة ام ياسمين، من سكان جبل النصر، أزمة مالية خانقة، لن تحلها حتى تحضر أوراقا رسمية تثبت أن ابنتها الوريثة تزوجت، وأنها لم تعمل قبل او بعد زواجها، بحسب ما قالت لـ “الغد”، مشيرة الى أنها كانت “تقدمت بالاوراق المطلوبة الى فرع الضمان الا انها ضاعت في مكاتبهم.. وما بين مركز المؤسسة وفروعها خلل واضح في التواصل مع المنتفعين، وتعامل متعب” بحسب وصفها.
ولحين صرف راتبها التقاعدي الذي ورثته عن زوجها راجعت ام ياسمين صندوق المعونة الوطنية الذي بدوره “رفض صرف اي مخصصات مالية كونها تستحق راتبا من الضمان مقداره 80 دينارا شهريا دون اكتراث بقضيتها العالقة في الضمان”.
وفيما “ترفض ام ياسمين الاشتراك بالضمان الاجتماعي، وتقبل العمل براتب شهري اقل بكثير من الحد الادنى للاجور لتحافظ على راتبها التقاعدي من زوجها”، يرى خبراء في القطاع العمالي ان “غالبية الرواتب التقاعدية التي تدفعها المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي للورثة منخفضة جدا كونها محسوبة على اشتراك يقل عن 300 دينار”.
ووفق امين عام وزارة العمل السابق حمادة ابو نجمه فإن “70 % من مشتركي الضمان تقل رواتبهم عن 520 دينارا، وهو ما يؤدي الى اختلال عند توزيع الراتب التقاعدي على الورثة الذين يكون عددهم كبيرا في أغلب الأحيان”.
ولغاية تفادي الإشكالات التي تنجم عن حرمان حصة الوريث من الراتب التقاعدي في حال مباشرة الوريث بالعمل خاصة للقادرين منهم او وصوله للسن القانونية، “يفترض أن تكون المعالجة بشكل شمولي، وفي إطار منظومة الحماية الاجتماعية الفاعلة والكفؤة”، بحسب مدير المرصد العمالي احمد عوض.
ودعا عوض الى عدم “وقف الراتب التقاعدي الا عند متوسط أجر محدد كاف أو خط الفقر المطلق للأسر المعيارية 5 افراد لضمان حياة كريمة للوريث وأسرته”، مطالبا بـ “اعادة النظر بمجمل منظومة الحماية في الأردن لتقوم على أسس توصية منظمة العمل الدولية 202 المتعلقة بالحماية الاجتماعية”.
وفي المقابل من ذلك، يقر الصبيحي ان المؤسسة “ما تزال تواجه تحديات التهرب التأميني، والتقاعد المبكر، وتدنّي نسبة المشتغلين، وتنافسية العمالة الوافدة غير الشرعية، وتوسّع شريحة العاملين في القطاع غير المنظّم، وضعف مشاركة المرأة في سوق العمل”.
فيما يذهب المدير التنفيذي لجمعية معهد تضامن النساء “تضامن” منير ادعيبس الى “أن فارق الاعمار بين الازواج يؤدي الى ازدياد في اعداد الارامل صغيرات بالسن وهن قادرات على العمل والانتاج”.