د. مهند العزة
حينما تم طرح موضوع ظاهرة الانتحار للنقاش في إحدى الفعاليات منذ بضع أشهر، وأشار البعض إلى ما يتم تداوله أحياناً من «تجريم محاولة الانتحار وفرض عقوبات على من يشرع فيها ودعوة البعض الآخر إلى تسييج الجسور المرتفعة التي شاع الانتحار من فوقها..»، ظننت أن هذا كله كان ضرب من خفة الظل والكوميديا التي تقترب من الفنتازيا والخيال العلمي.
جاء إقرار مجلس النواب لعقوبة الحبس والغرامة منذ بضع أيام في معدل قانون العقوبات، ليؤكد أن الخيال والكوميديا باتت حقيقة تراجيدية تعكس حالةً من العشوائية والانفصال عن المقاربات العلمية القائمة على الدليل والنتائج المتمخضة عن التجربة في معالجة أكثر القضايا حساسيةً لارتباطها بحياة الإنسان وصحته النفسية،ليسود منطق يُغلِّب فيه من بيده عقدة الأمر فهمه الشخصي النمطي وتصوراته المجردة عن سياقاتها الواقعية حول الصحة النفسية.
إذا افترضنا حسن النية في هكذا مقام، فلربما كان القصد منصرفاً من وراء هذا الحكم التشريعي -المستجد في مضمونه المستوطن في منهجيته- إلى منع حالات ادعاء الإقدام على الانتحار بغرض الابتزاز العاطفي العام لتحقيق غاية شخصية، كمن يهدد بحرق نفسه أو القفز من شاهق إذا لم يتم إيجاد وظيفة له أو سداد ديونه وما إلى ذلك من المظالم التي يعاني منها الكثيرون، الأمر الذي يشي به عنصر المكان الذي جاء به النص ليكون أحد عناصر الركن المادي لهذه «الجريمة»، حيث أن محاولة الانتحار -وفقاً لهذا الحكم المستحدث – لا ينسحب عليها وصف «الفعل الجرمي» إلا إذا وقعت في «مكان عام»، ليكون مفهوم المخالفة كما قرأه البعض: « إن أردت الانتحار فلا ضير طالما كان ذلك في غير الأماكن العامة»! وأياً ما كان الأمر، فإن كان الغرض من عملية «تجريم المرض» هو ردع «المتمارضين» من مدعي العزم على الانتحار ، فإن ذلك مَثَله مَثَل من يعاقب جمعاً من المرضى بحرمانهم من الدواء الذي فيه الشفاء لأن من بينهم من تمارض وتحايل.
لا يمكن تصور أن من دفع باتجاه هذا الحكم ومن أييده يحتاج إلى سماع نوافل الحقائق وبديهياتها من مثل: «أن من هانت الحياة في عينيه وعافتها نفسه ولم يأبه بما (ينتظره بعد الموت).. لن يلقي بالاً لعقوبة أياً كانت شدتها إذا ما فشلت محاولته في الانتحار وكتبت له النجاة، بل إنه كان لَيسعَد لو كانت العقوبة المقررة عليه في تلك الحالة هي الإعدام ليتحقق بيد غيره ما لم تجنيه يداه.
ثمة من كان أقل شططاً في التعامل السطحي مع ظاهرة الانتحار ودوافعها والعمل على الحد منها، فلم يطالب بتجريم الشروع في الانتحار واكتفى بالمطالبة بوضع سياج منيع على حواف الجسور والأماكن المرتفعة التي يحتمل أن تكون «قبلةً للمنتحرين»، وهذه الوجهة من النظر ينقص أصحابها تذكر أن من عزم على إنهاء حياته تحت وطأة الاكتئاب أو غيره من الأمراض والعوارض النفسية المصحوبة بميول انتحارية؛ لن يعدم الحيلة ليقوم بذلك، اللهمّ إلا إذا كان هؤلاء -كما هو المشرع في حكمه المستحدث- يتبع خطوات ثلة من الإعلاميين محدودي الثقافة في مصر التي حين شاعت حالات الانتحار فيها تحت عجلات «ميترو الأنفاق»، طالبت «بوضع حواجز ورقباء وكميرات للحد من هذه الظاهرة»، لكن هذه الثلة كانت أكثر تصالحاً مع نفسها إلى درجة أن بعض أفرادها قالوا بصراحة: «لو كنت عاوز تنتحر براحتك بس من غير ما تعطل الميترو أو القطار ومصالح الناس»!
يغلب الظنّ أن من قاموا بوضع هذا النص ومن أييدوه لم يجدوا ضرورةً لاستشارة أطباء النفس وعلمائه والتحاور مع بعض الناجين من الانتحار وأسرهم،وبطبيعة الحال لم يجدوا وقتاً ولا نفعاً من مراجعة الأدبيات العلمية الموثوقة عن الانتحار ودوافعه وسبل الحد منه ومعدلاته التي تشير بعض الدراسات إلى أنها أعلى بين الأطباء خصوصاً النفسيين منهم إلى حد قد يبلغ الضعف عمّا هي عليه بين غيرهم، ولا ريب والحالة هذه، أن أصحابنا أيضاً نأوا بأنفسهم عن الاطلاع على تجارب الدول الأخرى التي سخرّت كل مواردها الطبية والفنية متعددة التخصصات لمساعدة من لديهم ميول انتحارية، فخصصت «خطوط ساخنة، hotlines» تروّج لها ليل نهار وتطلب ممن تراوده فكرة الانتحار أو من يعرف شخصاً يفكر في الإقدام على ارتكابه؛ أن يتصل بها مع ضمانة كاملة لخصوصيته وسرية بياناته، حيث يتم تقديم الدعم النفسي والطبي الدوائي له فورا..حاشا وكلّا أن نقتدي بمثل هذه الدول وتوجهاتها «فنحن لنا خصوصيتنا وثقافتنا وأعرافنا في الانتحار وآدابه..»، ولما كان هذا هو الحال يا صاح،فلعلك تدرك الآن كرم القوم ورحمتهم، إذ لن يعاقب إلا من حاول الانتحار في غير الأماكن المصرح بها شريطة أن يبقى على قيد الحياة التي أراد الهروب منها، ليُلقى عليه القبض ويُحبَس ويُحرَم من محاولة إنهاء حياته 6 أشهر كاملة، ثم ماذا بعد؟؟؟ . . . يخلق الله ما لا تعلمون.
المساعدة على الانتحار فعل مجرم في معظم تشريعات العالم باستثناء تلك التي تجيز «القتل الرحيم، Euthanasia????»، وبالمثل كان بالإمكان وضع نص يجرم فعل التظاهر بالإقدام على الانتحار بغرض الابتزاز أو تحقيق مطالب شخصية حتى لو كانت عادلة، هذا لو كان فعلاً ما تغياه من وضعوا هذا الحكم وأقروه، لكن ظاهر النص يشير إلى أن العقول قدحت زنادها فأطلقت رصاصاً من ورق على أرجل عملاق ضخم في محاولتها إيجاد حل لظاهرة الانتحار المتزايدة، فقررت معاقبة من ينجو من إزهاق روحه بحبس جسده الذي لا يعبأ به أصلاً وتفريغ جيوبه الخاوية التي ربما كانت أحد أسباب أزمته .
هذا النص الغريب الذي يعود بالصحة النفسية في الأردن خطوات إلى الوراء حيث كان الظن قد غَلَب أن لا وراء تتراجع إليه أكثر مما هي عليه؛ جاء بمثابة الضربة القاضية للصحة النفسية، إذ لم يكتفي بالتماهي وتكريس الوصمة المؤلمة حول الأشخاص ذوي الإعاقة النفسية فحسب، بل جعل منهم مجرمين مدانين يستحقون العقاب لا الاحتضان والمعالجة. عموماً، ولكي لا ننتقص النص حقه،فإن ثمة ما هو مفيد فيه،إذ ربما ساهم في تحسين الحالة المزاجية لبعض المكتئبين المقبلين على الانتحار بما انطوى عليه من كوميديا وفكاهة، ومن يدري، فقد يدفعهم هذا إلى التروي قليلاً في تنفيذ قرارهم حالما يكتشفون أن في الحياة ما يُضحِك ولو كان شر البلية، أو لربما قرروا الموت من الضحك بقراءة النص 3 مرات قبل كل وجبة لمدة يومين.