د. مهند العزة
من المحزن أن تغدو حملات التنمر وانتهاك خصوصية الناس في الفضاء الافتراضي قاعدةً لا تستثير نخوةً ولا خلقاً ولا تشحذ يراعاً ليكتب عنها وعن دلالاتها، فقد نجحت نفايات المواقع الألكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي في فرض فضائها الملوث ورائحتها المنتنة على كل ما هو جميل وأصيل.
في غمرة هذا العفن الأخلاقي، جاء بيان وزارة الأوقاف عندنا الذي يستنكر حملة التمر والتشهير التي طالت أحد أئمة المساجد لكونه من الأشخاص ذوي الإعاقة النفسية –إن صح زعم الزاعمين- ليعطي بارقة أمل وومضة حياة وحياء بعثت في النفس بشرى بأن ثمة خير في مكان ما حتى وإن طغى القبح واستطال. بيان الأوقاف جاء راقياً في عباراته حقوقياً في مضامينه أخلاقياً في موقفه، فوقوف الوزارة إلى جانب موظفها الذي وقع ضحيةً لعبيد الليكات نكرات الجد ربائب الهَلْس والهزل؛ يعكس ممارسةً مؤسسيةً رائعةً ينبغي أن تدرّس وتحتذى من قبل سائر مؤسسات الدولة ووزاراتها، فأين بعض تلكم المؤسسات ممن استكثرت وتستكثر على أشخاص ذوي إعاقة العمل لديها تمييزاً وإقصاءً وتحكيماً لهوا ونظرة شخصية نرجسية ملؤها اللغط والنمط؛ من هذا الموقف المشرّف الذي اتخذته وزارة الأوقاف في مواجهة تلك الحملة الغوغائية التي شعار أصحابها «كل شيء مباح في معرض الفضائح والنباح».
كثيرون من يتحدثون خلف الكميرات والميكروفونات عن «غلبة الطيبة.. والشهامة.. والنخوة..» وغيرها من القيم الحميدة التي باتت في أوساط عصابات منصات التواصل الاجتماعي أثراً بعد عين، وواقع الحال يقول أن الكلام لا يستر عورةً باديةً للقاصي والداني، وإلا فما بالنا نحتفل ونحتفي بمن أقدم على فعل خير وطيب كان في غابر الأيام يعد من سجية الناس وأصل طبائعها، فإذا بنا اليوم ننبهر به وتجري ألسنتنا بعبارات التأسي على الماضي والتعلق بخيط أمل رفيع، فترانى نلعق شفاهنا ونطلق تنهيدةً ملتهبةً ونحن نقول: «يا سلاااااام! فعلاً الدنيا لسه بخير.. إن خلية بليت»، الأمر الذي يشير إلى أن القاعدة -كما سبق وقلنا وبكل أسف- صارت العنف والاستئصال، بينما غدى التقبل والاحترام الاستثناء الذي لا يقاس عليه ويغشى علينا عجباً بين يديه.
الفضاء الافتراضي جاء بمثابة المتنفس لجحافل الآدميين الافتراضيين والوحوش الحقيقيين من فصيلة «ما لا تطاوله قامتك فاطرحه أرضا»، فوجدوا فيه مكبّاً يفرغون فيه إحباطهم وخبالهم، متكئين على أريكة في عزلتهم وغربتهم التي تضاءل فيها عالمهم فغدى مجرد شاشة متسخة في جهاز هاتف أو حاسوب.
النفاق الاجتماعي بدوره يعتبر ممارسةً مألوفةً في سوق البلطجة وسرك التنمر، فجحافل الغوغاء التي تنمرت على إمام المسجد هي ذاتها التي كانت بالأمس القريب تتباكى على فلانة وعلان من ذوي الإعاقة لأنه تم رفض تشغيلهم أو توظيفهم، فأنى نصدق متباكي الأمس على ضحية التمييز وهم ينحرون ضحية اليوم على مذبح رذائلهم، لا لشيء إلا لأنها من مستخدمي خدمات الصحة النفسية؟
أخطر ما في القطيع وثقافته، أن سمومه تسري في جسد كل من يحوم حوله، لذلك لا غرابة أن ترى –بعيد عن السامعين- «مثقفين وإعلاميين ومتعلمين..» يعيثون وينهشون في الضحايا مع أقرانهم من البلطجية، فكما لرائحة الدم جاذبيتها عند أسماك القرش والضواري، فإن للغوغائية والبلطجة بريقها ووقعها على كل مأزوم مهزوز لا يقوى على مواجهة أي شيء في هذه الحياة إلا مرآة الحمام وهو يغسل يديه إن كان يفعل أصلا.
قد يلحظ القارئ حدة العبارات وقساوتها في هذه المقالة، وحق له ذلك، إلا أن العجب سيزول إذا عرف السبب، فتلك المفردات وهذه اللغة هي التي تلامس وعي قُطّاع الطريق الذين لا تستقبل آذانهم الرقيق من الكلام ولا تستشعر أفئدتهم المهذب من العبارات، ناهيك عن عقولهم التي تأبى أقفالها أن تنفتح لأي حوار هادئ أو نقاش رصين.
تعظيم سلام لوزارة الأوقاف على هذا الموقف النبيل الذي سوف تدونه لها الأيام في سجل المواقف المشرفة معدود الصفحات، وللإمام الذي انضم إلى قافلة ضحايا التنمر والاغتيال المعنوي من عصابات «كارهي أنفسهم» نقول: لا تأسى ولا تحزن على القوم الجاهلين، فما طالك مسّ من قبلك رسل وأنبياء وعالمات وعلماء، فأعرض عنهم واستحضر شاعر العرب البحتري وأنشد بتسامي وكبرياء مستحق ما جاء في سينيته: “صنت نفسي عمّا يدنّس نفسي * وترفّعت عن جدى كل جِبْسِ”.