محمد عواد يتحدث عن ” كيف حملت القلم ” لحنا مينة في قاعة مسرح عمون
ريما – أحمد أبو ريشة
حضر وزير الثقافة الأسبق طه الهباهبة حديث الأديب محمد درويش عواد الذي جاء تحت عنوان ” كيف حملت القلم ” وهو نفس عنوان مؤلف للروائي العربي الكبير حنا مينة في قاعة مسرح عمون والذي قدمه الناقد والأديب محمد المشايخ . وهذا ما قاله :
كثيرة هي السير التي باحت لنا بعوالم كتّابها منذ طفولتهم حتى تاريخ كتابة هذه السير , لكن سيرة حنا مينة تختلف في جوهرها عن أخرياتها , حيث ابتعدت ما أمكن عن سرد تفاصيل حياته الخاصة , لتقترب منه إبداعياً , ولهذا يمكننا القول إن هذه السيرة الإبداعية هي الأولى من نوعها عربيا حسب ظنّي , والتي يلخص لنا فيها سيرته الإبداعية ليجيبنا عن تساؤل لطالما شغل بالنا لسنوات طويلة ألا وهو : كيف جملت القلم ؟
يشكل العنوان ( كيف حملت القلم ) عالماً مليئاً بالأسرار والحكايات الغامضة , والتي لا يمكننا الدخول فيه إلا من خلال طرح الأسئلة الآتية : ماذا أكتب ؟ لمن أكتب ؟ ما الهدف من الكتابة ؟ حيث أن القلم أداة الكتابة , وحملة الأقلام هم صناع ( الثورات التي قلبت القديم قلباً , واجتثت جذور الماضي لتصنع مستقبلاً ) . ( ص7 )
إن عنوان هذه السيرة هو بوابة الولوج إلى عالم حنا مينة الإبداعيّ , إذ بأربع كلمات هي : أداة استفهام دالّة على الحال ( كيف ) وجملة فعلية ( حملت القلم ) استطاع أن يجذبنا نحو عالمه الإبداعي , ويخوض بنا في عباب بحره نحو لذّة الكتابة وهدفها الأسمى في تكوين البشرية التي تطمح إلى ما هو أفضل في الحياة , ف ( كل حركة في التاريخ , وكل اكتشاف في الطبيعة والمجتمع , وكذلك كل إنجاز علمي , كان حلماً في البدء , أفضى إلى فكرة , وصاغ القلم هذه الفكرة في مقولات ونظريات زمعادلات ودساتير …. تطمح إلى ما هو أفضل في الحياة ) . ( ص 7 – 8 ) .
طفولة مريرة وصعبة عاشها حنا مينة , فبعد أن تنبّأت إحدى آنسات المدرسة لأمه بأنّه سيصير كاهناً أو شرطياً , صار حلّاقاً بعد أن عمل أجيراً عند عائلة لرعاية الطفل , وبعد أن عمل في الميناء وعند مؤجّر دراجات . هذه الأعمال رغم صعوبتها وامتصاصها لطفولته البريئة أدخلته في عوالم تعرّف من خلالها على العالم بكل متناقضاته , والتي شكّلت في وعيه الشرارة الأولى لعالمه الأدبيّ , فبعد أن قرأ في طفولته ( المدارج ) الذي حفظ بعض قصائده , كان كتاب ( ألف ليلة وليلة ) كتابه المفضل , حيث عاش أجواءه السحريّة التي نأت به عن عالمه الواقعي بكل متناقضاته , ومن القراءة تحوّل إلى الكتابة فكتب رسائل غراميّة وهميّة دسّ فيها أحياناً أبياتاً من الشّعر التقطها من مجلة المكشوف , ومنذ تلك الأيام ( شرعتُ أستعمل القلم , ولا أكتفي بحمله , وكنت أكتب أشياء شبيهة بمواضيع الإنشاء , لكنها تعبر عن حياتي , وكنت أعرضها على الأستاذ إلياسفيشجعني , بينما معلّمي الحلاق ينكّد عليّ عيشي ) . ( ص 11 ) . وفي بيروت التي هاجر إليها بحثاً عن مهنة الحلاقة التي أتقنها , قذفته ريح غريبة إلى دمشق وهناك عمل مصادفة في الصحافة .
كانت الكتابة في نظر حنا مينة نوعاً من الكفاح , ولهذا كتب الأغنية والشعر والقصة القصيرة , وهذا الإضراب في الأجناس الأدبية مبعثه ( حبي الكبير للإنسانية , والرغبة في خدمة التقدم , والنضال ضد الظلم الإجتماعيّ , لإيماني أن المهنة التي امتدحها تشيكوف , وفضّلها على الطهارة والزهد , لم تكن كافية لخدمة القضية التي صرت من حملتها … وفي ذلك كله لم أفكر أن أصير كاتباً , بل كانت الكتابة إضافة إلى التظاهر والملاحقة والسجن نوعاً من الكفاح ) ( ص 14 ) , وزاد إصراره على هذا التوجه نقمته على الحكّام الأتراك الذين اغتصبوا لواء الإسكندرونة , فعانى العرب على أيديهم مظالم لا حدّ لها , وتضاعفت نقمته بعد الإحتلال الفرنسي لسورية ولبنان , وهذا ما جعل ينابيع الإبداع تتفجّر في داخله , ولهذا كتب في الأجناس الأدبية كلها . ولم يقف قلمه عند هذا الحدّ بل تابع تألّقه في كتابة العرائض وجمع التواقيع عليها من أهل الحيّ .
بعد عدة اعتقالات ودخول السجن أكثر من مرّة , هاجر حنا مينة إلى بيروت ثم إلى دمشق ( وهناك سأعرف بعد طول عناء لماذا أحمل القلم وماذا عليّ أن أفعل به ) ( ص 19 ) , فعمل في الصحافة الدمشقيّة محرّراً ثم سكرتير تحرير ومراسلاً لجريدة ( المساء ) المصرية , وشارك في تأسيس ( رابطة الكتاب السوريين ) وهناك كتب روايته الأولى ( المصابيح الزرق ) . ثم تضطره الظروف لمغادرة سورية إلى لبنان ثم إلى الصين التي سيمكث فيها متشرّداً لمدة عشرة أعوام متواصلة لم يكتب خلالها سوى ( الثلج يأتي من النافذة ) .
تعتبر روايته الأولى ( الشراع والعاصفة ) الإنطلاقة الأدبية الحقيقية لحنا مينة , حيث ( اعترف النّقّاد والرأي العام بي كروائي , وصرت حامل قلم حقيقة , وتوضت أمام ناظري مهمتي كحامل قلم , ومن يومها أكافح على جبهة الفكر , بعد أن قصرت كفاحي وعملي عليها , ووافق الأصدقاء والزملاء على اختياري , وتفرغت لكتابة الرواية ولم أزل . ( ص 21 – 22 ) .
إن حامل القلم من وجهة نظر كاتبنا هوحامل قضية , والتي سيحاسبه عليها التاريخ هذا الشيخ الجليل ذو اللحية البيضاء , ولهذا كانت الكتابة لديه ليس بهدف التسلية أو قتل الوقت , ( وإنما لأجعلهم يحصلون على التجربة بسهولة , على المعرفة , وأيضاً على المتعة كي يخرجوا من كل رواية وفي أذهانهم أسئلة , وأفكار , ومشاعر , وباعث على التفكير فيما يصحّ أو لا يصح من أمور الحياة , وأدفعهم إلى النضال بكلّ صروفه , ليغيّروا فيكلّ لحظة , أو يراكموا في كل لحظة الأسباب التيتؤدي إلى التغيير نحو الأفضل . ( ص 26 – 27 ) .
من خلال النص السابق يحدّد حنا مينة هدف الكتابة لديه , والذي يحتاج إلى دربة وخبرة طويلة في الحياة , وثقافة عالية , وعمل دؤوب عماده صبر كصبر النمل في جمع غذائه , وماناة ومعاشرة حقيقية لكل صروف العذاب من قهر وتشرّد واعتقال وسجن , تبدو الحياة مقامرة يصعب الرهان عليها , وفي ظنّي أن هذه الأمور يصعب اجتماعها إلا في قلّة من الأشخاص أحدهم حنا مينة , وهذا سر إبداعه وتفوقه على كثير من نظرائه الكتّاب , وهذا ما جعله تحت عنوان ( الأديب والمعاناة والموهبة ) يلخص لنا حكايته مع الأدب , والتي تتمحور في ثالوث متلازم : التجربة والجهد والموهبة ) , حيث يقول : ( أنا لا أستطيع أن أقول أو أكتب الأشياء إلا من خلال الأحداث , وفي الأحداث تنطوي المعاناة , ومنها مع الموهبة يكون الأدب , وهكذا صرت أديباً يحكي ما عاناه , دون أن أزعم أنني أملك موهبة , فهذه جاءت مع الممارسة , ولعلها تكون نبتة أحسنت سقايتها ورعايتها ) . ( ص 30 )
وتحدث كذلك عن معاناة حنا مينة فهذه المعاناة التي عاشها كاتبنا جعلته اشتراكياً ليس بالفكر وإنما بالعيش حتى صارت نسغاً في جسمه .